تم النشر فى : الخميس، 16 مايو 2024
الناشر : مؤسسة الوطن العربى الإعلامية - لندن ، المملكة المتحدة . WA MEDIA FOUNDATION - LONDON, UK
المشردون بالشوارع في تونس ، مآساة إنسانية تفترش الرصيف
الوطن العربى اليومية - تونس ( تحرير بهيجة بلمبروك ـ وات)..
إنكمشت "سهى" في ركن منزو تلفه العتمة من شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة رمز الثورة والحرية، قرب رواق أحد المحلات غير بعيد عن كاتدرائية "سان فانسون دو بول" وقبالة نصب العلامة بن خلدون المشع نورا من أثر انعكاس أضواء أعمدة الإنارة العمومية، لا هم لها سوى تهيئة ملاذ يأويها وتقضي فيه ليلة من ليالي صقيع شهر جانفي.
انسدل شعرها البني يحجب بعض سمات وجه بشوش، رغم ملامح بادية منه تعكس بجلاء وطأة المعاناة، واكتست وجنتاها حمرة طاغية من أثر شدة البرد واستعار خجلها. ذرفت دمعا من عينين نجلاوين وقالت "اضطررت للسكنى بالشارع الطويل منذ خمس سنوات بحثا عن قلوب رحيمة ترأف بي وبأخوي المعوقين اللذين تركتهما بمفردهما في مسقط رأسها، بعد أن فقدوا الأب والأم.
وتشير إحصائيات الإسعاف الاجتماعي أن 85 بالمائة من النساء اللائي تلقين المساعدة ليلا في شوارع العاصمة وعددهن الاجمالي 226 امرأة كن أرامل أو مطلقات أو عازبات، و72 بالمائة انقطعن عن الدراسة قبل انتهاء المرحلة الابتدائية وكن في وضعية هشاشة وتبعية اقتصادية.
تقول سهى (اسم مستعار) في حين كان عبد المجيد المكلف ضمن فريق الاسعاف الاجتماعي يقدم لها وجبة عشاء وغطاء وجوارب لمقاومة البرد، "أحيانا أتعرض للاعتداء من أشخاص يسلبون ما جاد به المارة علي، وبعضهم يتحرش بي. مؤخرا سُرقت، تعمد أحدهم خطف حقيبة يدي التي خبأت فيها ما جنيته من صدقات العابرين بالشارع. كنت شكوت ما حدث لي لدورية من أعوان الأمن مرت بعد فترة لكن دون جدوى".
قهر الشارع وزوّار أخر الليل
تلتقط سهى الأنفاس كأنما تستحث الذاكرة على مزيد من البوح ثم تشير إلى زاوية غير بعيدة عن ملاذها وتضيف قائلة "أهل الخير كانوا يعطفون علي أنا وصابر (جارها في الزاوية التي أشارت إليها)، لكنه غادر وصرت أجمع مبلغا أفضل من صدقات الناس. لكن سراقا ينهبونني بل لا يتورعون عن ضربي لافتكاك ما أجنيه عنوة".
اضطرت حميدة بن محمد " بورقيبة" (59 سنة)، إلى "الاستحواذ" على ركن من أركان شارع الحرية بين واجهات المحلات التجارية، فهي إحدى ضحايا قانون إجبارية مغادرة الأطفال قرى "أس أو أس" عند بلوغ سن الرشد. تعكف حميدة قابعة طيلة النهار قبالة جامع الفتح، إلى وقت متأخر من الليل لبيع المناديل الورقية والعلكة منذ خمس سنوات، وتقول بمرارة "قدرنا أطفال " بورقيبة "، أن نلفظ إلى الشارع أول حياتنا وآخرها ".
ورغم غياب إحصائيات رسمية حول المشردين في تونس، أطلقت وزارة الشؤون الاجتماعية آلية إغاثة اجتماعية لهم وللعائلات دون سند منذ ديسمير 2015. وتقوم الآلية على تعبئة فريق يتكون من أخصائي علم اجتماع وآخر في علم النفس ومساعد ممرض ومنقذ ويعمل على تزويد هؤلاء المشردين بالملابس والأغذية والاسعافات الأولية وبعض الاحتياجات الأساسية.
كما يسعى الفريق إلى إيجاد حلول للإقامة المؤقتة بمركز الإحاطة والتوجيه الاجتماعي بالزهروني. وتشير أرقام الوزارة إلى أنه تم التكفل ب 539 شخصا وإسداء 1641 خدمة للمشردين.
وخلصت دراسة أًنجزت في نهاية الشراكة بين مركز الادماج الاجتماعي بالزهروني وجمعية الاسعاف الاجتماعي الدولية، في ديسمبر 2019، إلى أن انعدام المداخيل والانقطاع عن العمل والديون ومشاكل الميراث وسلب الأموال من قبل العائلة كانت وراء لجوء 33 بالمائة ممن تم التكفل بهم إلى الشارع، فضلا عن الهشاشة الاقتصادية والفقر (بنسبة 35 بالمائة) والمشاكل العائلية (25 بالمائة) والأمراض المزمنة والإعاقات بنسبة 19 بالمائة.
جلست حميدة القرفصاء متكئة على الحائط وأخاديد قسمات وجهها الأسمر تسرد حجم معاناة السنين، قالت إنها طيلة رحلة العمر عانت الأمرين، فمن دارالرضيع والرمادية ببنزرت إلى قرى الأطفال بحمام الأنف والمراكز المندمجة، ففضاء المرأة المعنفة التابع للاتحاد الوطني للمرأة لتشتغل بعد ذلك في البيوت معينة منزلية وترزح وفق توصيفها، تحت نير استعباد تعددت تمظهراته لترسو بها مركب الحياة بهذا الشارع.
تكلمت بصوت منخفض بالكاد يسمع، إذ كانت تعاني من رشح شديد لتطلب من أعوان الاسعاف الاجتماعي إسعافها بدواء للرشح وبآخر لمرضها المزمن، وأعلمتهم أنها تنتعل في رجليها الصغيرتين خفين مختلفين لأنها لم تجد حذاء يقيها برد الليل وحجر الطريق، بعد أن أتلف أعوان الشرطة البيئية أمتعتها حين اقتلعوا "منزلها" الكرتوني الذي شيدته توقيا من زوار آخر الليل، فما كان من الفريق إلا أن وفّر لها عشاء وغطاء وحذاء.
وتقول وصدرها ينتفض من شدة السعال وآثار العنف بادية على محيط إحدى عينيها بسبب تلقيها لكمة من أحد المنحرفين قام بسلبها هاتفها الجوال الليلة الماضية بعد تعنيفها، "المنحرفون يتهجمون علينا في كل مرة ويسلبوننا ما جمعنا من مال وما لدينا من متاع. تعرضت إلى الطعن مرتين في محاولات للاعتداء علي".
قادت فريق الإسعاف الاجتماعي كي تكشف لهم نصف مسكنها الكرتوني الجديد الذي رتبت فيه فراشها وغطاءها وما تملكه من نزر قليل من الملابس، فالمساعدة الاجتماعية الخاصة بالعائلات المعوزة وقيمتها 180 دينارا لا تكفيها لاستئجار سكن. استرشدت بعد ذلك من الفريق عن مكان مركز الادماج الاجتماعي بالزهروني للاستحمام طلبا للاستحمام فيه لاحقا.
تحلم حميدة بنيل تعويض عن حادث سير تعرضت له وتسبب في تدخل جراحي على جسمها. قالت إنها تقدمت أيضا بمطلب الى ولاية بن عروس للحصول على رخصة كشك تستطيع أن تعيل منه نفسها وتوفر أجر غرفة تقيها " الأشرار" لكن طلبها قوبل بالرفض.
غير بعيد وتحت عمود إنارة عمومية محت عتمة المكان عند الركن الغربي لجامع الفتح، استلقى الهادي ( 37 سنة) " اسم مستعار"، على مرتبة بالية وخبأ رأسه بجزء من غطاء صوفي لم يكن يواري قدميه، ما حدا بفريق الاسعاف الاجتماعي إلى تمكينه من عشاء ليلته وغطاء جديد. يعاني الهادي من مرض السل ورفض أن يدلي عن معاناته بأي حديث.
قال أعضاء فريق الإسعاف إن إصابته بالسل أفقدته عمله كنادل بأحد المقاهي إذ كان مكلفا بإعداد النارجيلة (الشيشة) للزبائن. بمجرد طرده من العمل لاذت زوجته ببيت أهلها ليساعدوها على التكفل بابنها المعوق واتخذ هو من الشارع مأوى.
الإدمان المدمر
كان إدمان الكحول سبب تيه العم حسن بن صالح بلعيد اللطيفي أصيل تونس بالشوارع، ومكوثه تحت زخات المطر محتميا بشجيرات أمام أحد النزل بشارع أولاد حفوز. تتصاعد من ملابسه الرثة الوسخة رائحة عفنة لا تطاق. كان افترش مرتبة مهترئة لا يدرك لها لون من قدمها والتحف غطاء باليا. قال إنه أقام بالشارع منذ خمسة وثلاثين عاما (من سنة 1985).
مد العم حسن يده يطلب سيجارة وتحدث ودمع العين يسبق كلماته فقال: "فريق الإسعاف الاجتماعي وقليل من أهل الإحسان يقدمون لي المساعدة. في غالب الأحيان حين أريد الاستحمام ألجأ إلى محطة تنظيف سيارات وأغتسل في الشتاء والصيف بماء بارد".
قرر الاسعاف الطبي اصطحاب عم حسن من أمام جامع الفتح إلى مركز الادماج الاجتماعي للمرة الثانية. كان عم حسن قد أقام بالمركز سنتين متتاليتين ثم تم تمكينه من إحداث مشروع تمثّل في عربة لبيع الخضر والغلال في السوق. حقق المشروع أرباحا لكن إدمان عم حسن على معاقرة الخمر أتى على رأس المال فأفلس.
وقال محرز الجلاصي أحد أعضاء فريق الاسعاف الطبي أن الرجل أصيب بأزمة كلى فوقع نقله الى المستشفى حيث أجرى عملية جراحية على حساب المركز، وذلك بمقتضى اتفاقية مع وزارة الصحة وبطاقات الاتصال التي يمنحها المركز للمعني ليتم التكفل به مجانا في مختلف المؤسسات الصحية.
على عتبة أحد المحلات الكبرى بشارع الحرية انطوت سعاد مفترشة أوراق كرتون وغطت جسمها بغطاء صوفي مهترئ مال لونه الأبيض إلى الرمادي من شدة الأوساخ والأوحال.
تدخن ما بقي من سيجارتها في نهم وتتصاعد من فيها مع الدخان المنبعث رائحة كحول قذرة. انفجرت صارخة في وجه منسّق فريق الإسعاف الاجتماعي "وعدوني بجراية العائلات المعوزة، وذهبت إلى مقر وزارة الاجتماعية فأعلموني هنالك أنهم كذبوا علي. لا جراية لي ولا ملف يخصني يوجد لديهم أصلا".
أجابها المسؤول مبديا تعاطفا "ملفك لم يصل بعد للوزارة مازال لدى المندوبية الجهوية" ثم طلب منها القدوم في غضون يومين إلى مركز الإدماج الاجتماعي بالزهروني لمتابعة ملفها.
لكن سعاد تستشيط غضبا ويتعالى صراخها "أتعاطى دواء الأعصاب ، أنا بنت الرازي (مستشفى الأمراض العقلية)، لا أملك ثمن الدواء ولا قدرة لي على الكراء".
وحسب ما روته، ظلت سعاد مقيمة بمركز الإدماج سنتين قبل أن تكفلها امرأة ثم تطردها بعد شهرين من الكفالة وتلقي بها في الشارع. وطالبت بإرجاعها إلى المركز كما كانت من قبل.
وأكد عبد المجيد مساعد اجتماعي في فريق الإسعاف الاجتماعي أنها كانت من نزلاء المركز وتابع المختصون حالتها الصحية مع مستشفى الرازي، غير أنها كانت تغادره نهارا ولا تعود إلا مساء في حالة سكر وتتسبب في عديد المشاكل مع بعض المقيمين، ووافق المسؤولون في المركز على خروجها منه عندما تقدمت سيدة قبلت ايوائها غير أن ذلك لم يدم سوى شهرين لتجد نفسها مجددا في الشارع.
وقد استقبل مركز الإدماج الاجتماعي بالزهروني خلال السنة الماضية 113 حالة مقابل 51 سنة 2018، وفق ما أفاد به مديره منير عيسى الذي لفت إلى أن 152 شخصا استفاد من المشاريع الصغرى سنة 2019 بعد أن كان عدد المستفيدين في حدود 84 شخصا في السنة التي سبقتها.
الإسعاف الاجتماعي في نجدة المشرّدين
وكان من المفترض أن يحتضن مركز إيواء فاقدي السند بمنطقة سيدي البشير بالعاصمة، هؤلاء المشردين، وقد قامت بلدية تونس بتهيئته على أساس أن تفتح أبوابه لاستقبالهم في مارس 2019، إلا أن ذلك لم يتم بعد أن قررت رئيسة بلدية المكان التراجع عن فتح المركز إثر تقدم نحو 200 مواطن بعريضة لها عبروا فيها عن رفضهم فتحه رغم استكمال تهيئته وتأثيثه بموارد مشتركة بين البلدية والولاية، حسب والي الجهة الشاذلي بوعلاق الذي أكد في تصريح
لـ(وات)، أن العمل جار لإيجاد مكان جديد يتم تخصيصه لهم.
وقالت شيخة مدينة تونس سعاد عبد الرحيم، إنه تحت ضغط السكان والعرائض العديدة التي تقدموا بها رافضين إحداث هذا المركز قربهم، فضلت التريّث والبحث عن مكان آخر.
وذكرت أنه يتم حاليا التفكير في تسخير المقر الذي كانت ستخصصه وزاة شؤون المرأة والأسرة والطفولة وكبار السن لإيواء النساء المعنّفات.
وفي انتظار المأوى المشترك لمآسيهم وحفظ ما بقي لهم من صحة وكرامة تظل الشوارع بأوساخها وأخطارها وعنفها وحرها وقرها مأوى هؤلاء المشردين الذين تناثروا في الأماكن التي خيل إليهم أنها آمنة... احتضنوا أوجاعهم وكتموا سخطهم وقهرهم على أمل أن تتبدل أحوالهم أو تغير "الدولة الكافلة لكل مواطنيها" أوضاعهم.